The Free Men We Are

12 جوان 2011

رسالة من صديق علوي

لم يعد يخفى على أحد منا اللعبة التي يقوم بها النظام لزرع الفتنة الطائفية بين السنة والعلويين في سوري. لذلك قرر صديقي العلوي أن يرسل رسالة إلى كل من الطائفتين لوضع الأمور في نصابها الصحيح أملاً منه أن تلقى هذه الرسالة الصدى المطلوب في نفوس أبناء الشعب السوري من كل الطوائف.
تعريف بالعلويين من داخلهم ورسالة إلى العلويين:
أنا شخص علوي أعيش في منطقة مختلطة بين عدة طوائف وقد استفدت من هذا في فهم الطوائف الأخرى، لا أتجرأ على أقول اسمي خوفا من العواقب. يحتوي هذا المقال عنوانين، الأول موجه لكل السوريين وهو تعريف بالعلويين من داخلهم، والثاني رسالة إلى العلويين.
أكتب عن مشكلة النابعة من الوضع الراهن أي من الحراك في الشارع السوري ضد النظام. وللأسف لاحظت أن بعض السوريين خصوصاً من الأخوة السنة يعتبرون الحكم في سوريا طائفياً علوياً. ونظرا لفداحة هذا الخطأ قررت أن أكتب هذا النص بالإضافة إلى تضمينه رسالة للعلويين في نهايته.
تعاني سوريا من عدم اختلاط الطوائف ببعضها بالدرجة الكافية والنظرة المغلوطة للطوائف عن بعضها، لكنها تبقى من التجارب المتميزة عن دول الجوار في هذا المجال، لكن للأسف ، وكعلوي، من خلال مخالطتي لأصدقائي في الحي والجامعة من الطوائف الأخرى، فوجئت بالكم الكبير من المعلومات المغلوطة لديهم عن العلويين وأعتقد أن ذلك سببه انغلاق الطوائف على نفسها بالإضافة إلى تقصير الحكومات المتعاقية في التصدي لهذا الجانب الاجتماعي الهام.

أولا- التعريف بالعلويين
العلويون جزء من الشعب السوري، عاشوا دوما في فقر مدقع بعيدا عن رعاية الحكومات. يتميزون بالنفس الوطني العروبي والتزامهم بقضية فلسطين في ثقافتهم وتفكيرهم وقد قدموا الكثير من التضحيات لسوريا بحيث لا توجد قرية إلا قدمت شهداء في حربي 73 أو82 ويذكر التاريخ أنهم أول من تصدى للمستعمر الفرنسي عند نزوله على الشواطئ السورية وخاضوا ضدهم الكثير من المعارك المعروفة لأهل المنطقة فذبح أبناؤهم وأحرقت الكثير من قراهم وقد رفضوا دولتهم العلوية التي أنشأتها فرنسا لهم وأرسلوا موفديهم مع بقية الدويلات السورية الأخرى محملين برسالة مؤثرة لا تزال كلماتها ماثلة في الذاكرة الوطنية السورية ترفض هذه الدويلات المصطنعة وتطالب الفرنسيين بإعادة توحيد سوريا.
حتى الآن يعيش الكثير من العلويين في فقر يلامس العدم، ربما لا يوجد مثله في مناطق أخرى من سوريا. سكان المدن هم من فئة الموظفين – أي من الفئة دون المتوسطة – ولا يقومون بأعمال أخرى عموما والسبب هو ضعف القطاع الخاص في مناطقهم وعدم الدعم الكافي للدولة. اللافت بينهم هو عدم وجود أغنياء كبار في مجتمعهم ولا مالكين كبار (إلا رامي مخلوف)، ونسبة البطالة في مناطقهم مرتفعة جدا خاصة في القرى حيث الدولة تكاد لا تدعم الزراعة وزراعاتهم في العموم من الحجم الصغير أي من النوع الذي لا يكفي ليقيم بعائلة بسبب صغر الملكيات وتخلف وسائل الزراعة. مع ذلك، هناك القلة القليلة جدا من المستفيدين الذين يعيشون في أغلبهم في العاصمة وليس كل العلويين في العاصصمة مستفيدين بل أغلبهم موظفون عاديون، وهؤلاء المستفيدين من فئة الضباط بشكل خاص. على كل حال، إذا أردتم أن تروا الفقر المدقع فاذهبوا إلى قرى القرداحة على سبيل المثال.
ندخل في موضوع ارتفاع عدد العلويين في الجيش والأمن، واعتماد السلطة عليهم بشكل خاص في تثبيت دعائمها، وهذه بالمناسبة إساءة كبيرة بحقهم، فقد تم استخدامهم من النظام الحاكم بحيث كان التطوع في الجيش والأمن هو الحل الوحيد لأبناء القرى الفقيرة. هذه القرى هي أيضا فقيرة ثقافيا وغالبية أهلها بسطاء مثل غالبية السوريين في حوران والجزيرة مثلا، وذلك رغم وجود بعض المتنورين، والسبب هو عدم الاهتمام الحكومي بالناحية الثقافية.
نشأت مع الزمن طبقة فاسدة في الجيش والأمن بحيث عمقت هذه الطبقة سياسات استخدام العلويين في الأمن وأمعنت في تجهيلهم وتحجيمهم ثقافيا بحيث أصبح عنصر الأمن خصوصا، شخصا يعرف فقط ما يقال له ويصدق به فعلا. وما نراه الآن من تعامل عناصر الأمن مع المظاهرات ليس نابعا من طبيعة إجرامية، بل من اعتقادهم فعلا بأنهم يحمون سوريا وولاءهم للرئيس، وهذا ينطبق على عناصر الأمن من كل الطوائف وليس فقط الغالبية العلوية.قالوا لهم أن هناك مؤامرة على سوريا وأن من في الشارع يعملون مع إسرائيل ويدارون من تنظيمات متطرفة وأن هؤلاء يحللون قتل عنصر الأمن وهذا يكفي ليغسل دماغهم ويجعلهم يقفون إلى جانب السلطة. لا أعرف إذا كان هناك بعض العناصر المرتبطين بالخارج أو لا ولكن ليس هذا الموضوع الآن. أنا متأكد من وجود الكثير من عناصر الأمن المرتبكين فليس القتل سهلا على أحد، لكن لا خيار أمامهم سوى تنفيذ الأوامر. أنا أعرف أن من بين العناصر من يبكي دما على ما يراه وقد يكون بينهم من يرفض إطلاق النار فعلا، لذلك نرى أن مطلقي النار على المظاهرات هم غالبا متقدمون قليلا في العمر وليسوا شبانا، وهؤلاء غالبا ممن يخشون انهيار جهاز الأمنوالنظام وهم بذلك في الغالب من الفئة المستفيدة ضمن الأمن التي تدافع عن مصالحها في الوضع السيء القائم.
يخدم كثير من ضباط الجيش من العلويين في مناطق الخدمة البعيدة والصعبة ويعيشون ظروفا اقتصادية مزرية، وما يسمع عن فساد بعض الضباط هو أكيد من كل الطوائف لكن كثرة الضباط العلويين في الجيش يجعل بشكل طبيعي النسبة الأكبر من الفاسدين منهم مرئيا أكثر. لكن هذا يتجاهل أن الغالبية العظمى من الضباط العلويين شرفاء وعصاميين وحتى ظروفهم صعبة وهؤلاء لا يقبلون ان تتم مقارنتهم بالفاسدين. وأعرف شخصياً الكثيرين ممن طلبوا التسريح وتسرحوا فعلاً بسبب عدم قبولهم هذا المطب الأخلاقي ورفضوا أن يخدموا في هذه الظروف وخرجوا من الجيش إلى البطالة الحقيقية. لكن الرأي العام لا يلقي الضوء إلا على القلة الفاسدين ويتجاهل الغالبية الشريفة. هؤلاء الضباط الشرفاء من الصعب أن يصلوا إلى مناصب عليا بسبب عدم قبولهم استعمال وسائل المنافسة غير الشريفة.
بالعودة إلى الحاضنة الشعبية لهؤلاء الضباط وعناصر الأمن وهم مجتمع الطائفة العلوية، نجد الفاسد منهم منبوذاً ومحط سخرية واحتقار من العلويين، وهذة حقيقة ، لذلك فإن الفاسدين معزولين ومحاطين ببطانة قليلة من المستفيدين. والملفت للنظر أن الفاسدين يقومون بطلب المال من الفقراء حتى يتواسطوا لأبنائهم في الوظائف، والمضحك هو أنهم في أغلب الأحوال يقومون بالخداع ولا يعيدون الأموال ولا يوظفونهم تحت أي حجة.
الحاضنة الشعبية العلوية ترفض أي نوع من أنواع الفساد وتحتقره خصوصا أنها معنية مباشرة بهذا الفساد ومتضرره منه ولهذا فالفاسدون مهما كانوا أغنياء معزولون اجتماعيا. ويجب القول هنا-وهي ملاحظة مهمة جدا- أن الفاسدين من الضباط وعناصر الأمن لا يشيعون أبدا افعالهم بل يتكتمون عليها و يحاولون الظهور بمظهر التقي الورع الذي نزلت عليه نعمة من الله لكنهم لا ينجحون مع ذلك. وعلى سيرة كثرة الضباط العلويين في الجيش والأمن، من الجدير بالذكر أن الرئيس بشار الأسد حاول في بداية حكمه نقل بعض المناصب العليا في الجيش إلى ضباط سنة لكون قوبل بمعارضة شديدة من الرؤوس الكبيرة في الجيش والأمن. قد لا يعرف الكثيرون هذا، لكن حدث هذا في حدود عام 2003-2004. رغم ذلك يوجد بعض الضباط السنة في مناصب مهمة في الجيش والأمن رغم أن عددهم أقل بشكل واضح من العلويين.
الشبيحة، هو مصطلح ظهر في التسعينات ليعبر عن عصابات قليلة العدد في محافظة اللاذقية، اشتهرت بالظهور المسلح، وقد اشتغلوا في التهريب، وتكبروا وتجبروا وعاثوا فسادا وأرعبوا أهل المنطقة من العلويين وظلموهم كثيراً وتدخلوا في الوظائف الإدارية في محافظة اللاذقية وريفها. العلويين منهم براء وربط مسمى الشبيحة مع العلويين هو ظلم كبير للعلويين، و قد لا يعرف الكثيرون أن إحدى ممارساتهم كانت غزو القرى العلوية بالسلاح وخطف الفتيات من القرى العلوية واغتصابهن وحدث هذا كثيراً في قرى جبلة الفقيرة، وايضا خطف الفتيات العلويات من شوارع اللاذقية. طلب أهالي المنطقة من الرئيس بشار الأسد في بداية حكمهم وضع حد  لهم فتمت محاربتهم وتقزيمهم، إلا أن من تربى على شيء لا يمكن أن يغيره بسهولة.
العلويين ليسوا طائفيين بالمجمل، وأثر رجال الدين على وعيهم ورأيهم العام شبه معدوم، وقد منعت السلطة سابقاً قيام مرجعية دينية لهم وحاربت الدور الاجتماعي لرجال الدين، وشجع الضباط الفاسدون رجال الدين المتخلفين مما أدى إلى انفضاض الناس عنهم. بالمقابل، نرى نفسا طائفياً ضعيفاً يظهر في المناطق القليلة التي يتركز فيها الضباط الفاسدون، وهؤلاء يشجعون هذا النفس حتى تلتف الناس حولهم ولكن في العموم لا ترى طائفياً بين العلويين إلا المستفيدين وبعض المتملقين حولهم.
أريد أن أوضح سبب الهوة في موقف العلويين والسنة في الأحداث الأخيرة. ليس السبب طائفيا بل إعلامياً في الاساس رغم كل محاولات البعض النفخ في نار الطائفية. أولاً اريد أن أقول أن هناك عاملًا إعلامياً يشكل فارقا بين العلويين والسنة وهو كثرة عناصر الأمن من العلويين، وهؤلاء ينقلون قناعاتهم وأفكارهم إلى محيطهم. وبالطبع عندما يقومون باعتقال أحد مثلا – حتى لو ظلماً – فإن لديهم مبرر أخبرهم به رؤساؤهم وصدقوه، وهم يقومون بقص الحكايات بين أهلهم عن هذه الأعمال ويسردون معها المبررات التي يعتقدون بها. حدث هذا عبر السنوات، بالمحصلة فقد نشأت خلفية للعلويين عن ما يحدث في البلد مختلفة عن خلفية السنة ولم تحدث مصارحات بسبب تحفظ الناس عن الحديث في هذه الأمور خوفاً من السلطة. وتباعدت هاتان الخلفيتان حتى وصلنا إلى وضعنا اليوم: غالبية العلويين يعتقدون فعلاً بوجود المؤامرة من الخارج، وغالبية السنة يعتقدون فعلاً بوجود المؤامرة من النظام.
إضاف إلى ذلك، ما أثار العلويين هو نفسه ما أثار السنة، أي منظر الدماء، لكن دماء أبنائهم بشكل أساسي، فقد سقط عدد كبير من عناصر الأمن والجيش في القرى العلوية في الأحداث الأخيرة وهؤلاء موزعون بين كل المناطق العلوية وهم بالطبع مثل البقية يعتبرونهم شهداء وهم يصدقون فعلاً أن من قتلهم هو ضالع في مؤامرة تابعة للخارج ويستحيل أن يكونوا سوريين وإلا فمن قتل ابناءهم؟ تعقد الوضع وانكفأ العلويين على أنفسهم واضطروا للوقوف إلى جانب النظام لما شاهدوا بعض الهتافات الطائفية وقتل نضال جنود وقتل بعض المدنيين العلويين الآخرين. كل هذا أثبت لهم أن تنظيماً متطرفاً مشحوناً بالكره الطائفي يستهدفهم لذلك كان من الاسهل عليهم تصديق رواية السلطة عن التنظيمات المتطرفة التي هي جزء من مؤامرة خارجية.
العلويون لا ينكرون المطالب المحقة للمتظاهرين فهم يريدون الإصلاح أيضا لأنهم يستنكرون الفساد الذي يعانون منه هم ذاتهم والذي صنع قلة من الحيتان من كل الطوائف وترك بقية الشعب يعانون من الأزمات الاقتصادية. الكذب الإعلامي أيضا أزعجهم وأكد لهم هذه المؤامرة وجعلهم يلتفون حول النظام، وليكن معلوماً أنهم لا يعرفون ما يحدث في الشوارع في المدن الأخرى فهم في أغلبهم بعيدون عن مناطق المظاهرات، حتى ما حدث في اللاذقية في بداية الأحداث، لا يفهمه حتى من حصلت أمام بيته، فانتماء من يطلق النار غير معروف بالنسبة لهم حتى الأن وقالت لهم السلطة رواية المخربين فصدقوها  -أنا لا أعرف ماهي الحقيقة- وأغلب العلويين منذ بداية الأحداث لا يتابع الجزيرة وقاطعوها خصوصاً بعد كذبها في الأحداث عدة مرات وفضلوا تصديق روايات قناة الدنيا. لذلك موقف العلويين الآن واضح من الأحداث: نحن مع مطالب الشعب المحقة، لكن دعوا السلطة تنظف البلد من المسلحين، ثم عودوا للتظاهر وسوف ندعمكم. وقد تجد بعض الاصوات المخالفة لهذا لكنهم غالبا من المستفيدين بطريقة أو بأخرى.
على الهامش، يجب أن يعرف الناس بوجود عدد كبير من معتقلي الرأي والمعتقلين السياسيين من العلويين خصوصا في فترة الرئيس الراحل حافظ الأسد. وقد ظهرت بوادر المعارضة مبكرة لحكمه بين العلويين لكنه تم تحييدهم بالسجن والإبعاد. بهذا المعنى، لم يتخلى العلويون أبداً عن دورهم الوطني، لكن كما تم تفريغ الساحة من المعارضة السنية، تم تفريغها ايضاً من المعارضة العلوية.

رسالة إلى العلويين:
لقد عشتم القهر والاستغلال، وقد عشتم ظروفا سيئة على كل الاصعدة وعشتم التمايز الاجتماعي، وقد تم استخدام أبنائكم لخدمة السلطة. وقد خدمت هذه السلطة التجار الكبار من المدن الكبرى وبعض المقربين من السلطة بينما عانى أبناؤكم من الفقر والتهميش.
بناء دولة المواطنة والعدالة من صالحكم كما هو من صالح بقية السوريين. أتمنى أن تثقوا بإخوانكم السنة وتضعوا يدكم بيدهم لبناء دولة المواطنة وثقوا أن السنة نفسهم لا يقبلون بوصول المتطرفين الطائفيين إلى الحكم، علينا أن نثق بالطوائف الأخرى جميعها ونتشارك معها، فقد وثقوا بنا زمناً طويلاً والأمر الطبيعي أن يتشارك كل السوريين في الحكم.
وليكن معلوماً أن وجود بعض السنة الطائفيين وحاملي الافكار المتطرفة لا يعني أنهم السنة جميعاً يكرهون العلوييين فأغلبهم يريدون دولة المواطنة والعدالة التي تضم الجميع أي مثلكم تماما، والكلام الطائفي موجود عند قلة من كل الطوائف ولا تخافوا منه فقط هو الصوت الأكثر ارتفاعاً في هذه الجلبة لأنه نشاز لكنه لا يمثل إلا فئةً قليلة. وأرجو أن تعلموا أن من يروج لفكرة الطائفية إنما يريد عزلكم وصدمكم مع الاخرين. إذا كنتم تعتقدون أن هناك مؤامرة على سوريا فلن تستطيعوا التصدي لها دون أن تضعوا أيديكم في يد بقية الطوائف كمواطنين أولاً ثم نخرج جميعا إلى منطق المواطنة ونرمي منطق الطوائف وراء ظهرنا. لا تخشوا من الإقصاء عن الحكم، فلم يكن الحكم بيدكم أبدا ، بل كنتم جزءاً من أحجار اللعبة وضحايا كغيركم، ولا تخافوا فلن يقتلعكم أحد من ارضكم فهذا غير ممكن ولا تنزعجوا من الهتافات ضد للسلطة فهي في أغلبها ليست موجهة إليكم ولا تريد لكم الطائفة السنية إلا الخير.
بدأ مخاض سوريا الجديدة باتجاه دولة المواطنة ولن يتوقف، فارفعوا الغطاء عن الفاسدين وحاسبوهم اجتماعياً أنتم قبل غيركم وسهلوا هذا المخاض.
اخرجوا من تحت هذا العبء الثقيل، ولا تقبلوا أن ينظر إليكم بقية السوريين على أنكم تحكمون سوريا في حين أنكم متضررون مثلكم مثل غيركم، وأن من يحكم فعلياً هي فئة قليلة مستفيدة، ولا تسمحوا أن يتم الظلم والاعتقال باسمكم. ليس اكتشاف اللعبة سهلاً، وحتى لو اكتشفتوها ربما لا تقدرون على تغيير الأحداث كثيرا، ولكن أقل الإيمان أن ترفضوا ما يحدث باسمكم وتحتجوا عليه وتعزلوا الفاسدين نهائيا. أيضاً، لا تخافوا على المقاومة فسنعيد صياغة دعمها مع البقية في سوريا بشكل ديمقراطي فالكل مع المقاومة.
ليس من السهل أن تصدقوا أنكم أداة فقط ولكن بعد كل هذا الدم ستبدؤون وعاجلا أم آجلا ستتكشف الكثير من الحقائق وستبدأون بالتساؤل عن صدق الفاسدين بالتأكيد، وستكتشفون كم تم ظلمكم عن طريق استخدام أولادكم في حماية السلطة، سيأخذ اكتشاف اللعبة وقتاً، لكن يجب أن يكون قصيراً حتى نقدر مع بقية السوريون على مواكبة استحقاقات المرحلة الحالية التي تتفاقم بسرعة.
لا أعرف إن كان النظام سيسقط أو لا، لكن من مصلحة الجميع أن يتم الضغط عليه ليشرك جميع الطوائف بنسب عادلة في الحكم، وكما ترون عمق الأزمة التي نحن فيها، أحد أهم أسبابها هو استخدام أبنائكم لحماية السلطة وقد تتطور الأمور إلى حرب طائفية وأنتم ليس لكم ذنب ولستم مستفيدين في شيء. ارفضوا استغلالكم واستغلال ابنائكم وارفضوا أن يوجه الحقد ضدكم وأن تحملوا تهمة ليست صحيحة بحقكم. شاركوا في حل مشكلة سوريا بأن تفهموا هذا أولاً.
حتى نقضي على مؤامرة الخارج يجب أن لا نسمح له باللعب على مشاكلنا، وإحدى هذه المشاكل هي هذا التمثيل المرتفع للعلويين في المناصب القيادية في الجيش والأمن وهذا ما يغضب الكثيرين من السوريين الآخرين ومعهم حق، أليس كذلك؟
أقل ما يمكنكم فعله أن تطلبوا من الرئيس أن يحميكم من الكراهية التي قد تنفجر في أي لحظة على شكل حرب طائفية وذلك بأن ينقل بعض المناصب القيادية في الجيش والأمن إلى الطوائف الأخرى وخصوصا السنة وأن يشركهم في الحكم أكثر. سيحدث هذا عاجلا أو آجلا فغيروه بأيديكم واحموا نفسكم من أن يتم تغييره بالصراع، فطالما بقي هذا الوضع في الاستئثار بالمناصب القيادية سنبقى مكروهين كطائفة ولكن الذنب ليس ذنبنا بل ذنب الفاسدين فلماذا نحميهم؟

لا تخافوا، ليس معقولا أن يتم تسريح أبنائكم من الأمن والجيش فهم موظفون في الدولة، قد يتم فقط موازنة المناصب القيادية، وسيبقى أبناؤكم في أماكنهم، وربما يتم استيعاب عدد أقل من أبنائكم في الجيش والأمن في المستقبل لكن بالتأكيد لن يتم هذا دون استيعابهم في وظائف أخرى للدولة أو اهتمام الدولة بمشاريع جديدة في مناطقكم تستقطب المزيد من القوة العاملة بدل التطوع في الجيش والأمن.
إياكم ثم إياكم أن تقبلوا أن يتم تسليحكم في مواجهة أخوتكم السوريين حتى لا تنزلق سوريا إلى حرب طائفية تكون ويلاتها على الجميع، وهل من الممكن أن يكون من يستخدمكم لحماية نفسه ولا يكترث بحرب طائفية ضدكم أن يفكر بكم أصلا؟

في النهاية، أيها العلويون، أنا من صلبكم ومن لدنكم، أحبكم وأفتخر بكم، وقد حملكم التاريخ مسؤولية كبيرة ايها الفقراء، أرجو الله أن يوفقكم لتكونوا أهلها وتساهموا في حماية أنفسكم وحماية سوريا.

15 ماي 2011

مقترح بيان للانتفاضة السورية

دخلت اليوم انتفاضتنا الشعبية شهرها الثالث وحققت الكثير من الإنجازات وعلى رأسها قدرتها على الصمود والانتشار بالرغم من كل هذا العنف والقتل الذي يواجهه أحرار سوريا بصدور عارية. إلا أننا بتنا اليوم بأشد الحاجة للعمل على تنظيم الجهود وتوحيد الرؤية حول الحل السياسي المحتمل. لذلك أطرح مقترح البيان هذا أمام الجميع لمناقشته وتبني النسخة النهائية. وهنا نص البيان:

في هذه اللحظات العصيبة والحزينة التي يمر فيها وطننا الحبيب سوريا، والتي يتم فيها محاصرة المدن بالدبابات والمدرعات وإطلاق النار مباشرة على المتظاهرين السلميين وحملات الاعتقال العشوائية وترويع السكان على امتداد جغرافية هذا الوطن، نعلن أننا كمواطنين سوريين من حقنا التعبير عن آرائنا بكل الأشكال السلمية، وما المظاهرات السلمية إلا أحد هذه الأشكال التي كفلها الدستور السوري، وخاصة أنها الطريقة الوحيدة في ظل انسداد آفاق التعبير الأخرى إن كانت سياسية أو مدنية أو إعلامية والتي نعاني منها منذ عدة عقود.

والحال هذه فإننا كمواطنين سوريين عندما نخرج في المظاهرات للتعبير عن تطلعاتنا في الحرية والكرامة تحت سقف دستور وقانون يحترم مواطنيتنا، نضع نصب أعيننا المبادئ الأساسية التالية:

  • سوريا دولة مدنية لكل مواطنيها المتساوين بالحقوق والواجبات بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بغض النظر عن الدين والمذهب والجنس والتوجه السياسي. وبناءً عليه فإننا ندين بأشد العبارات وننبذ كل من يطلق أي شعار طائفي أثناء المظاهرات. ولن نقبل بدستور يتضمن المادتين الثالثة والثامنة من الدستور الحالي.

  • طريق الحرية والكرامة هو طريق سلمي ينبذ العنف مبدئياً ومصلحياً. وأن المظاهرات كانت وستبقى سلمية وسوف تطوق أي محاولة لجر المواطنين إلى العنف أو لتخريب الممتلكات العامة والخاصة. ولن نقبل بوجود المخربين بيننا.

  • الشعب السوري، كما الشعوب العربية الأخرى، مقاوم بطبيعته. وليس هذا الأمر جديداً علينا بل كان جلياً أثناء الاستعمار الأوروبي لبلادنا وخلال عشرات السنين من احتلال الكيان الصهيوني للأراضي العربية. لذلك نرفض اتهامنا بشكل مباشر أو غير مباشر بأننا سوف نتهاون بشأن الأراضي العربية المحتلة في حال حصولنا على حريتنا وكرامتنا.

  • التدخل الخارجي مرفوض بكافة أشكاله، وأن مشكلتنا سورية وسوف تبقى كذلك حتى نقوم بحلها.

وبناءً على كل ما تقدم فإننا نؤكد على أن الحل السياسي الذي يتشارك فيه كل أبناء الشعب السوري هو الوحيد الذي يمكن أن يوصلنا إلى بر الأمان، ويقطع الطريق على كل المؤامرات والمتآمرين (إن وجدوا) على وطننا. ولا يمكن للعنف و الحلول الأمنية إلا أن تؤدي إلى مزيد من الاحتقان ومزيد من الدماء السورية الأغلى على قلوبنا. وأن شعارات الحرية والكرامة ليست ضبابية ونحن نفهم أبعادها ومتطلباتها جيداً من حيث الحقوق والواجبات. وهي تمر بطريق إعادة بناء النظام السياسي في سوريا على أسس المواطنة والمدنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة الوطنية.

ولأن الحل هو سياسي بامتياز فإننا نطالب السلطات السورية بالإجراءات التمهيدية التالية كاعتراف من قبلها بأن الأزمة هي وطنية وليست ذات منشأ مؤامراتي خارجي من جهة، وكتعبير عن حسن النية من جهة أخرى:

  1. الوقف الفوري لكل أشكال العنف من قتل واعتقالات وتعذيب ضد المتظاهرين السلميين والناشطين. وسحب وحدات الجيش من المناطق السكنية وإعادتها إلى مكانها الطبيعي في ثكناتها العسكرية. وكف يد الأجهزة الأمنية عن حياة المواطنين السوريين وعن وسائل الإعلام بكافة أشكالها.

  2. الوقف الفوري للحملة الإعلامية التخوينية ضد المتظاهرين والمعارضين وضد كل من له رأي مخالف لرأي السلطة.

  3. إعلان الحداد الرسمي في كل أنحاء سوريا لمدة ثلاثة أيام على أرواح الشهداء من مدنيين وعسكريين الذين سقطوا بيد الغدر.

ثم الشروع بالخطوات التالية كحل سياسي للأزمة الوطنية الراهنة في سبيل القطع نهائياً مع النظام السياسي القائم وإعادة بنائه:

 أولاًالخطوات المستعجلة التي لا تحتاج إلى دراسات ومشاورات:

  1. الإفراج الفوري عن كافة المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي دون استثناء. وتصفية آثار قانون الطوارئ بشكل كامل. ونرفض أي قوانين أخرى ذات طابع التفافي على هذا الحق.

  2. إلغاء المواد من قانون العقوبات السوري التي تعمل عمل قانون الطوارئ والتي يحاكم المعارضين وأصحاب الرأي على أساسها بنشر الأخبار الكاذبة ووهن نفسية الأمة وغيرها من التهم الجاهزة لكل مخالف لرأي السلطة.

  3. إلغاء كافة المراسيم والقوانين التي تمنح حصانة لعناصر الأمن وضباطه وصف ضباطه من المحاكمة في حال ارتكاب الجرائم بحق المواطنين.

  4. السماح الفوري بعودة المنفيين والمهجرين قسراً ليشاركوا ببناء مستقبل الوطن.

  5. تشكيل لجنة قضائية مستقلة يشرف عليها قضاة وناشطون حقوقيون مشهود لهم بالنزاهة للتحقق بالجرائم التي ارتكبت خلال الأحداث الأخيرة أياً كان مرتكبها.

 ثانياًالدعوة إلى عقد مؤتمر وطني يضم ممثلين عن كافة أطياف وتوجهات الشعب السوري. ويقع على عاتق هذا المؤتمر التأسيس لدولة القانون والمدنية والمواطنة والعدالة الاجتماعية، وتصفية كل بؤر التوتر والمصالحة الوطنية وطي صفحة الماضي.

 ولا بد من التذكير أن السلطة هي المسؤولة عن بدء الحوار مع ممثلين حقيقيين عن الشعب السوري، ونرفض أي حوارات ذات طابع فئوي أو مناطقي كما يحدث الآن مع شخصيات دينية وعشائرية ومناطقية. وإن كان الوقت ما زال متاحاً أمام السلطة حتى هذه لإطلاق عملية إعادة البناء، فإن النافذة تضيق يوماً بعد يوم وشهيداً بعد شهيد.

عاشت سوريا حرة أبية

4 ماي 2011

فعل بناء المواطنة وعدم حتمية انتصار الثورة السورية

كان بيت الشعر لأبي القاسم الشابي “إذا الشعب أراد الحياة يوماً فلا بد أن يستجيب القدر” إحدى العلامات التي طبعت الثورة التونسية وكان حاملاً هاماً من حوامل الانتصار على نظام بن علي. وألهبت هذه الثورة وهذا البيت الشعري عواطف الشعوب العربية وحركت فيهم التوق إلى الحرية والانتعاق من الظلم والاستبداد. إلا أن هذا البيت يضمر نوعاً من الحتمية التاريخ لانتصار الشعوب إن هي أرادت الحياة. فهل إرادة الحياة شرط لازم وكاف لاستجابة القدر؟

لا يمكن للظلم أن يستمر، ولا بد للشعوب أن تستعيد قرارها وكرامتها: هاتان حتميتان تاريخيتان نتفق عليهما جميعاً إن كنا من أنصار الفلسفة المادية التاريخية الماركسية أو من أنصار المثالية الهيغلية أو من أنصار إحدى الديانات التي تتمحور حول ثنائية الخير والشر. لكن السؤال الأهم: متى؟ هل إن أراد الشعب الحياة الآن تصبح استجابة القدر حتمية وتحصيل حاصل؟ ربما مثال الانتفاضة البحرينية هي الجواب على ذلك!

سوريا ليست تونس ومصر بكل تأكيد، أصبح ذلك جلياً بعد أول أسبوع من عمر الثورة السورية وبشر عديدون بذلك قبل انطلاق الشرارة من حوران. الاختلاف ليس بطبيعة الظلم والاستبداد، بل بطبيعة المعركة التي يجب أن يخوضها الشعب لانتزاع حريته والتي تعود إلى طبيعة سوريا نفسها وطبيعة النظام الذي وضع أسسه بناءً على قراءة ذكية للواقع السوري. ليس ذكاء النظام هو من يمكن أن يفوت الفرصة على الشعب بتحقيق الانتصار، ولا بطشه اللامتناهي أيضاً، بل الأمر منوط بنا نحن السوريون بكل انتماءاتنا لنضع أسس الانتصار وأسس سوريا الغد.

التحدي الأكبر الذي تواجهه الثورة السورية هو عدم انضمام الطوائف الأخرى الأقل عدداً إلى صفوف المنادين بالحرية. ولنكن صريحين مع أنفسنا، ما زال الطابع السني يطغى على هذا الحراك (يوجد الكثير من الطوائف والأديان الأخرى منخرطة بالانتفاضة لكنهم لا يمثلون نسبة معتبرة من طوائفهم)، هذا لا يعني أنه يجب على كل ملايين الشعب السوري أن تخرج إلى الشوارع وتنادي بالحرية. ومهما ازداد عدد المتظاهرين تبقى الانتفاضة منقوصة في حال عدم تلونها بألوان الطيف السوري كله ويصبح هناك خطر حقيقي على انتصارها. هل قلنا مواطنة؟

المواطنة ليست مجرد “صفنة” فكرية، أو وحي يأتي من السماء. نظّر كثيرون للمواطنة كفعل نمارسه في حياتنا اليومية وطالبنا به ليكون ناظماً للحياة السياسية والاجتماعية والقانونية، إلا أنها وكما بدأ يتضح جلياً خلال الانتفاضة السورية أنها فعل بناء قبل أن تكون فعل ممارسة. إنها لحظة التوازن بين مصالح فئات مختلفة عقائدياً وفكرياً، هي اللحظة التي تلتقي فيها مصالح جميع الفئات معاً دون استثناء أحد على أي قاعدة كانت.

كنت أتحدث إلى أحد المتظاهرين قبل أسبوعين حول خوف الطوائف الأخرى من نتائج الانتفاضة السورية فقال لي بالحرف الواحد “يحق لكل من يحمل الهوية السورية أن يحكم سوريا، إن كانت مسيحياً أو سنياً أو علوياً، المهم أن ننتخبه نحن”. وهذا الرجل ليس مفكراً ولا كاتباً وإنما صاحب بقالية، إنه ببساطة مواطن سوري. لا أدعي أن الجميع يفكرون بنفس الطريقة، ربما لا يكون هذا المتظاهر هو القاعدة، لكني أعتقد أنه ليس استثناءً أيضاً ويمكن الانطلاق من هنا لبناء مواطنيتنا التي هدمت على أيدي النظام خلال أربعة عقود من الاستبداد.

حكم النظام السوري سوريا على أساس طائفي وقبلي مغلف بطبقة علمانية كاذبة. تعمد تخويف الطوائف والأديان الأقل عدداً (وخاصة الطائفة العلوية) وأوهمها أنه يحمهيها من الطائفة السنية ذات الأغلبية العددية، وساعده على ذلك تبني العديد من التيارات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي للفكر السلفي الجهادي المبني على أسس طائفية هو أيضاً. ونحن اليوم أمام مفترق طرق من تاريخ سوريا، فإما أن نستطيع (معاً) بناء دولة المواطنة أو لا نعلم أين نحن ذاهبون. هناك مسافة اليوم بين جميع الطوائف، والمسافة أكبر بين الطائفة السنية وباقي الطوائف والأديان الأخرى، واليوم أمامنا فرصة تاريخية ربما لا تعوض على المدى المنظور. أمام الجميع اليوم الفرصة ليخطو خطوة إلى الأمام باتجاه الآخر لنصل إلى نقطة التلاقي، إلى نقطة الاعتراف الكامل والعملي (ليس قولاً فقط)  بالآخر، إلى المواطنة.

صحيح أن المطالب الأساسية للاحتجاجات هي الحرية والكرامة ورفع الاستبداد السياسي والأمني، إلا أنها ما زالت محصورة نسبياً بالطائفة السنية ولم تنجح إلى الآن بكسب التأييد الكامل والانخراط الفعلي من قبل الطوائف الآخرى. لذلك عليها أن توضح موقفها من حقوق تلك الطوائف. الثورة ليست حقوق فقط، بل هي( مصالح) أيضاً. يعيش الجميع اليوم حالة الانغلاق السياسي ذاتها، لا أحد يحلم أن يصبح رئيساً لسوريا، ولا أن يتبوأ منصباً ما بغير اتباع منطق الزبائنية السائد، لكن بالإضافة إلى ذلك فإن الطوائف الآخر اليوم تعيش (أو تتوهم أنها تعيش) حالة من حماية المصالح والوجود وهي تعيش بشكل فعلي حرية الممارسة الدينية والاجتماعية. فإن نجحت الثورة اليوم فما هي مكاسب هذه الطوائف من وجهة نظرها؟ لن تكون قادرة على شغل مواقع المسؤولية وأولها رئاسة الجمهورية وهذا هو الوضع اليوم بطبيعة الحال. أي أنها لن تكسب سوى هامشاً صغيراً في المجال السياسي، ولكنها بنفس الوقت سوف تغامر بحرية الممارسة الدينية والاجتماعية. أي أن احتمالات الخسارة بالنسبة لها أكثر من احتمالات الربح. فما هو المطلوب اليوم؟

يجب الاعتراف بشكل واضح غير قابل للتأويل بمعنى الدولة المدنية التي يريد المنتفضون الوصول إليها. وأهم علامات المدنية هي الاعتراف بأحقية أي مواطن سوري، بغض النظر عن أي انتماء آخر، بأن يكون رئيساً لسوريا. وأن يتم التأكيد على حرية الممارسة الدينية والاجتماعية (لا تكفي حرية الممارسة الدينية فقط). لن يقبل الميسيحي أو غيره أن يقال له: يحق لك هذا ولا يحق لك ذلك. وفي المقابل على الطوائف الأخرى اليوم الاعتراف بحجم الجريمة التي يقوم بها النظام بحق المتظاهرين وعدم الاختباء وراء تبريرات واهية لتصديق ما يروج له الإعلام الرسمي من أكاذيب تهين دم الشهداء أولاً وتهين كل سوري ثانياً. وبالتالي الانخراط بشكل فعال بهذه الانتفاضة ليشاركوا بأيديهم ببناء مستقبل سوريا.

هي ليست خارطة طريق أو اتفاقية يجب على أحد أن يقوم بالخطوة الأولى تجاه الآخر، بل هي خطوات على الجميع القيام بها تجاه الآخر الآن وبسرعة لإنقاذ سوريا من الوقوع في المحظور. وهذا المحظور لا يتلخص فقط بانتصار آلة قتل النظام على المتظاهرين، بل هناك محظورات أخرى يمكن أن تطفو إلى السطح حتى وإن سقط النظام.

فهل نستيطع بناء مواطنة لم يعرفها تاريخ الإنسانية بعد؟

1 ماي 2011

حديث طائفي حول سوريا

أبدأ بآخر تعليق ورد على مقالي السابق على مدونتي حول الفتنتان اللتان تطلان برأسيهما على سوريا: “قد تسمع في بعض المظاهرات دعوات طائفية على لسان قلة من الشعب البسيط الذي امتزج عنده مفهوم تسلط و قمع الدولة بالطائفة العلوية و التي هي بريئة منه جملة وتفصيلا ، بحكم كونها جزء لا يتجزأ من مكونات الشعب السوري و الذي تعرض للاضطهاد و التنكيل كغيره و بل و بشكل اقسى احيانا، لكننا بنفس الوقت لا نسيطيع ان ننكر ان اي شخص من اي طائفة اذا اراد ان يرهب احدا لا يعرفه في الطريق او حتى على الهاتف فإنه يستخدم اللهجة العلوية ليصل إلى غرضه المطلوب”

– امتطى حافظ الأسد السلطة في سوريا بانقلاب عسكري عام 1970. بنى نظامه على مبدأ اختيار من يدين بالولاء المطلق له، وتم ذلك عن طريق العلاقات العائلية والعشائرية. وبما أنه من الطائفة العلوية فكان من الطبيعي أن يسيطر العلويون على المفاصل الهامة من الجيش وأجهزة المخابرات والأمن. حتى وصلنا للمرحلة التي وصفها التعليق أعلاه أنه إن أردت أن ترهب أحداً ما فعليك التحدث بلهجة أبناء الطائفة العلوية. ولم يعمل حافظ الأسد أبداً على نفي هذه الصفة عن نظامه بشكل عملي (كان ينفيها لفظياً فقط)، بل كان من مصلحته توريط أبناء طائفته بهذا النظام بشكل مباشر أو غير مباشر. وجدير بالذكر أن المستفيدين من النظام من هذه الطائفة لا يشكلون سوى أقلية، والبقية تعيش بحالة بؤس شأنها شأن باقي الشعب السوري وربما أشد. إلا أنه وللأسف ارتبطت لهجة أبناء هذه الطائفة بالخوف في قلوب باقي السوريين والسنة منهم خاصة. ولزاماً علينا أن نقول أن العلويين أنفسهم تضرروا من هذه النظرة، فالقلة المستفيدة منهم سببت رد فعل معاكس على باقي أبناء الطائفة من قبل الطوائف الأخرى، وسببت لهم الكثير من المعانا.

– مازالت أحداث الثمانينات مختبئة في ذاكرة كل سوري. راح ضحية هذه الأحداث العشرات وربما المئات من المثقفين والضباط العلويين على يد الطليعة المسلحة للأخوان المسلمين، وحصدت الكثير من المواطنين السنة في حلب وانتهت بمجزرة دموية قام بها حافظ الأسد في حماة وراح ضحيتها آلاف المواطنين معظهم من السنة بطبيعة الحال. وهي مرشحة للاستيقاظ بأي لحظة، لأن النظام رفض دائماً أي نوع من المصالحة لتنظيف الذاكرة من تلك العناصر التي سوف تظهر بشكل غرائزي عند أول اختبار لها. وبات من الواضح أن له المصلحة الأولى في ذلك. وهذا ما نراه في بعض الحالات اليوم.

– عمل النظام السوري على مدار أربعة عقود على إقناع الطوائف والأديان الأقل عدداً بأنه حاميهم ولولاه سوف يأكلهم مجرموا الأخوان المسلمين. و كان يضع حراسة على العديد من الكنائس في مناسبات المسيحيين لدرجة أنهم اعتقدوا حقاً أن المسلمين سوف يأكلونهم لولا هذه العناصر الحامية!

– قضى النظام السوري على كل اجتماع مدني أو سياسي، فلم يعد أمام الناس سوى الاجتماع الديني فغاب المثقف والسياسي المدني وبرز الشيخ ورجل الدين بدلاً عنه. وعقد النظام ما يشبه الصفقة مع رجال الدين “المعتدلين” فسمح لهم باستباحة المجتمع طولاً وعرضاً وزادت أعداد مريديهم. التدين ليس عيباً، والالتفاف حول الشيوخ ليست جوهر المشكلة، بل المشكلة هي غياب المدني بمقابل انتشار الديني!

– عندما خرجت المظاهرات من الجوامع فوجئنا بمدى انتشار الإسلامفوبيا في المجتمع عامة وبشكل خاص عند الطوائف غير السنية والأديان الأخرى. كان من الطبيعي أن يعاني الناس العاديون والبسيطون من هذه الحالة في ظل التجهيل والتفريق المتعمد بين المواطنين، لكن أن تظهر هذه الحالة بتلك الكثافة عند المثقفين والمتعلمين والذين انفتحوا على العالم عبر وسائل الاتصال الحديثة وغيرها من الأساليب الأخرى فهذا لم يكن مفهوماً أبداً. نسي أولئك أن الإمكانية الوحيدة لاجتماع الناس لتشكيل نواة مظاهرة كانت من أماكن العبادة حصراً.

– لعب البترودولار دوراً هاماً في تسويق الأصولية الدينية وامتلكت كل الأدوات لذلك. فنشرت الفكر التكفيري الذي لا يعترف بالآخر ولا يعترف حتى بالإبداع من داخل الجماعة نفسها. وما أسامة بن لادن سوى الابن الشرعي له. وساهم انسداد الأفق السياسي والاجتماعي على انتشاره أكثر.

– خلال الأسابيع الماضية من عمر الثورة السورية سجلت العديد من الحوادث ذات الطابع الطائفي أو العنفي. في جبلة وبانياس وحمص واللاذقية ودوما. ردد البعض شعارات من قبيل “لا إيران ولا حزب الله بدنا دولة توحد الله” و “العلوية بالتابوت والمسيحية على بيروت”. وقتل عدة أشخاص وعناصر شرطة على أساس طائفي. كما استخدم بعض المتظاهرين أو الأهالي  في عدة مناطق منها حمص وتلبيسة وبانياس وتل كلخ العنف ضد رجال الشرطة والأمن في أكثر من حادثة. ولا ننسى الشاب نضال جنود الذي قتل في بانياس بطريقة وحشية.

– مارست صفحة الثورة السورية بروباغندا إعلامية ذات نفس طائفي لا تقيم اعتباراً لحساسية الوضع في سوريا، وتعتقد أنها إن قالت بأن السوريين أخوة فهذا كاف لطمأنة الأقليات الدينية. هذا ناهيك عن عدم الاعتراف بالأخطاء التي تقع من قبل المتظاهرين أنفسهم وتحويلهم إلى ملائكة بشكل غير واقعي وغير قابل للتصديق. بالإضافة إلى ادعاء أن كل رجال الأمن والشرطة قتلوا من قبل أجهزة الأمن نفسها. وهي بذلك تمارس تماماً ما تمارسه الفضائيات السورية من إنكار الآخر وشيطنته! بل ويراها كثير من داعمي الانتفاضة السورية أنها تسيء إلى المظاهرات والانتفاضة نفسها. فهل تفعل مثل الإعلام السورية، أم تقوم بمراجعة خطابها؟

إن كنا نريد للانتفاضة أن تنجح ونقود سوريا إلى بر الأمان فعلينا أن نبذل الكثير من الجهد. يجب علينا أولاً أن نضع أنفسنا مكان الآخر ونحاول فهم موقفه، ثم نطمأنه على مستقبله معنا، ليس بالقول فقط بل بالفعل أيضاً. وأول هذا الفعل ألا نتجاهل الخطأ وندينه، وأن نفكر في “ماذا بعد؟” كيف نريد لسوريا أن تكون؟ هل تصورنا لسوريا يطمئن الأقليات الدينية؟ أم ما نركز عليه الآن فقط هو إسقاط النظام ثم لكل حادث حديث؟ يجب أن ينعكس ذلك على مظاهراتنا وشعاراتنا ويجب أن نكون حازمين إلى أقصى الحدود مع كل من يمارس الفوضى كما فعل أهالي حمص في غير مرة. علينا أن نجد بدائل عن المشايخ الذين يخطبون ويمثلون المتظاهرين، ليس تقليلاً من احترامهم أو شأنهم، بل لأنهم ببساطة لا يمثلون كل السوريين، فلن يرى المسيحي أو العلوي أو غيره أن الشيخ السني يمثله بكل تأكيد، لذلك علينا انتقاء خطبائنا وممثلينا بعناية، ليكونوا ممثلين لكل السوريين دون استثناء. باختصار، علينا التدقيق في كل تفصيل صغير في ممارستنا لفعل النضال من أجل الحرية والكرامة.

أرجو من كل من يقرأ هذه الكلمات، وقبل أن يهاجمني، أن يفكر بها قليلاً ويضع نفسه مكان الآخر.

18 أفريل 2011

الثورة السورية: فتنتان تطلان برأسيهما

انطلق قطار الحرية ولا مجال لإيقافه مهما تمترسنا خلف منطق العقلانية والوسطية، وهذا القطار للجميع وبالجميع. فإما نلحق به جميعاً ونحدد مساره معاً بما يخدم مصالحنا المشتركة والتي هي مصلحة الوطن أو نتخلف عنه ونترك يسير ويحدد الآخرون وجهته

لم أعتقد يوماً أن اضطر للحديث بهذه الصراحة الفجة عن الفتنة الطائفية في سوريا أو أن أتحدث بمنطق المكونات والطوائف عوضاً عن منطق المواطنة الذي طالما تحدثت به. لكن الأحداث في اليومين الأخيرين بدأت تأخذ منحى خطيراً ما عاد التغاضي عنه مقبولاً.

إعلان المجابهة

التقى الرئيس الأسد وفداً من وجهاء درعا قبيل جمعة الإصرار الماضية ووعدهم أن يتظاهروا ويهتفوا بما شاؤوا ولن يحتك معهم الأمن. وهذا ما تم فعلاً يوم الجمعة بكافة أنحاء سوريا، سارت المظاهرات بشكل طبيعي ولم تسجل حالات عنف وإطلاق نار إلا في حالتين بسيطيتني لم يسقط نتيجتهما أي شهيد. وهكذا وبعد وعد الرئيس اختفت فجأة العصابات المسلحة والتزمت وعد الرئيس في هذا اليوم، أو ربما رغبت بأخذ يوم عطلة بعد عناء شهر، لا أعلم!

ألقى الرئيس خطابه التوجيهي أمام الحكومة الجديدة يوم السبت الماضي، وحدد أسس ما أراد تسويقه إلى الشعب على أنه إصلاح. سوف أتحدث في مقال لاحق عن وعود الإصلاح هذه. ما يعنينا هنا هو الوعيد الذي أطلقه الرئيس للمتظاهرين “عندما تصدر هذه الحزمة لا يعود هناك حجة لتنظيم المظاهرات في سوريا”. كانت هناك دعوات للتظاهر يوم الأحد في عيد الجلاء، واستيقظنا في هذا اليوم على خبر ضبط شاحنة محملة بالأسلحة قادمة من العراق، وأول ما قلته “الله يستر” إنهم يهيئون الشعب نفسياً لتقبل مجزرة جديدة. وهذا ما تم فعلاً ليلة الأحد بسقوط عشرات الشهداء في حمص واللاذقية وأكثر من 150 جريحاً فيما بات يعرف بالإعلام السوري على أنه مواجهات بين الأمن والجيش من جهة وبين العصابات المسلحة من جهة أخرى.

فتنة الحرية والأمن

الحق يقال أن النظام نجح، حتى هذه اللحظة على الأقل وخاصة بعد وعود الإصلاح، بتقسيم السوريين بين راغب بالحرية مهما كلفه ذلك من ثمن وبين راغب بالأمان مهما كلف ذلك من ثمن. أتابع النقاشات على الفيس بوك ووسائل الإعلام المختلفة حول ضرورة العودة إلى المنازل وترك الشارع والانتظاهر بضعة أشهر لنتبين النية بالحقيقية بالإصلاح. وبدا الانقسام واضحاً بين هاتين الفئتين. وهذا ما كنت قد حذرت منه في مقالين سابقين. ولم يعد عند دعاة الأمان والعقلانية أي قيمة لدماء الشهداء الذين سقطوا ونسوا أولئك الذين أهينت كرامتهم أشد إهانة من قبل عناصر الأمن والشبيحة في قرية البيضا، بل يريدون الخروج من الأزمة بأمان بغض النظر عما قدمه الآخرون من تضحيات، ونسوا أن وعود الإصلاح هذه ما كانوا ليحلموا بها لولا الدماء الشريفة الطاهرة التي أنارت طريق الحرية. قال لي أحدهم أن حديثي هذا هو بحد ذاته فتنة بين الطرفين وأقول لهم: إن من يقوم بالفعل هو الذي يحدث الفتنة وليس من يصف هذا الفعل! إن كنتم لا تصدقون رواية العصابات المسلحة فعار عليكم أن تتركوا إخوانكم تهدر دماءهم وتدعون العقلانية وترجيح المصلحة العامة وتتغافلوا أن الذي يرتكب هذه الجرائم هو النظام وليس المتظاهرين. كم تشدقتم وسخرتم من محور الاعتدال العربي عندما كان يصيح بالمقاومة الفلسطينية واللبناينة بأن لا تعطي ذريعة للعدو الصهيوني ليشن حربه هنا وهناك على أصحاب الحق. وها أنتم أنفسكم تلعبون دور محور الاعتدال في مواجهة آلة القتل التابعة للنظام وتتركون مواطنيكم يواجهون الرصاص بصدورهم العارية وحيدين، ولا تكتفون بذلك فقط بل تدعونهم إلى العودة إلى المنازل وكأن الدماء التي سالت هي ليست دماء أبناءهم وأطفالهم. عجبي منكم. أما أنتم الذين صدقتكم رواية العصابات المسلحة التي اختفت فجأة يوم الجمعة السابقة، فأنتم أشد نفاقاً أعزائي وأقولها لكم بكل فجاجة وصراحة لأن هذا الوقت لا يحتمل غير الصراحة. أنتم أنفسكم الذين صرختم واحتفلتم وملأت ضحكاتكم أرجاء الأرض أثناء الثورتين التونسية والمصرية وامتلأت صفحاتكم ومنازلكم وقلوبكم بأعلام هذين البلدين. أيها المنافقون، أنتم أنفسكم ضحكتم من غباء الإعلام الرسمي هناك عندما ساق قصص المؤامرات الخارجية والكنتاكي والأموال التي وزعت على المتظاهرين والمسلحين وغيرها. أنتم أنفسكم تصدقون نفس الروايات اليوم أو على الأقل تقولون لا نستطيع تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. كفاكم كذباً على أنفسهكم بالله عليكم. والحق يقال أن هذا الانقسام لا يتبع قاعدة معينة من حيث توزعه الطائفي، بل دعاة العقلانية والتروي ومصدقوا رواية العصابات المسلحة أو المشككون هم من كل الطوائف والمكونات.

الفتنة الطائفية

يتخوف الكثيرون من البعد الإسلامي الأصولي لهذه الحركة المطالبة بالحرية، ويحددون ملامح هذا البعد بانطلاق المظاهرات من المساجد أيام الجمعة، واقتصارها حتى الآن على مدن ومناطق ذات طبيعة محافظة أو حتى متشددة دينية. عمل النظام على مدى خمسة عقود على تهميش وإعدام أي اجتماع مدني سياسي، وبالتالي أصبح من شبه المستحيل أن تستطيع القوى الديمقراطية المدنية تنظيم مظاهرة ما في ساحة ما. وقام العديد من الشباب بعدة محاولات وفشلوا بذلك، لأن عناصر الأمن كانت تجهض عملية التجمع بشكل مسبق وقبل أن يستطيعوا تشكيل عدد مقبول لإطلاق أي شعار أو هتاف. فلم يعد هناك من إمكانية سوى الانطلاق من المساجد أيام الجمعة التي تتواجد فيها الحشود بشكل مسبق ولا تستطيع الأجهزة الأمنية منع هذه التجمعات أساساً. بل كل ما عليها فعله هو محاولة فضها بعد انطلاق المظاهرة. حتى اللادينيين وغيرهم اضطروا للانخراط بهذه المظاهرات لأنه لا بديل أمامهم غيرها. ولم يكن اقتصار المظاهرات على المناطق المحافظة والمعروفة بتشددها الديني سوى نتيجة لاعتكاف المتمترسين وراء مثل هذه الحجج، فغدت حجة أضافية لهم. فلو أنهم انضموا إلى هذه التجمعات التي تخرج من المساجد لرأينا أن الحركة تنتشر في مختلف المناطق ولم تقتصر على بعضها فقط. فلا تتذرعوا بحجة أنتم السبب المباشر بحصولها.

ولا ننكر، على مبدأ النعامة، أن معظم الطوائف وخاصة العلويين والمسحيين يخشون من سيطرة الإسلام الأصولي على الحكم أو تخشى من دخول المتطرفين على خط الأحداث وفتح جبهة حرب ضد هذه الطوائف، ويشمل هذا الخوف شريحة واسعة من الطائفة السنية أيضاً. ولا ننكر أيضاً أن هناك من يحاول جاهداً العبث بهذا الحراك وتجييره لمصالحه كما ذكرت عدة مرات قبل اليوم.

وفي هذا السياق، سمعنا عن ورقة وجدت في كنيسة السيدة بدمشق تهدد بتفجير الكنيسة، وسمعت من أحد الأصدقاء أن بعض الشبان في حمص مروا من منطقة الحميدية ذات الأغلبية المسيحية وهتفوا بـ “هي إلى الجهاد” و “أين النخوة ياشباب” على اعتبار أنها رسالة موجهة للمسيحيين الذين لم ينضموا إلى المظاهرات بعد. وقام النظام بدمشق بفرز عناصر من الشرطة لحراسة بعض الكنائس (ولا أعلم إن كان هذا الإجراء عاماً في المدن السورية) ويريد النظام بذلك أن يوحي أنه يقوم بحماية المسيحيين وأنهم سوف يضيعون بدونه. وهذا ما يفعله عادة في حلب أثناء احتفالات الكنيسة هناك، حتى زرعت هذه الفكرة في لا وعي المسيحيين دون وجود أي مبرر لذلك. فلم يسبق أن تم الاعتداء على الكنائس في سوريا!

ولا أخفي أن بعض العلويين انتابهم الخوف بعد انتشار الفيديو الذي يظهر عناصر الأمن والشبيحة تقوم بإهانة سكان قرية البيضا وخاصة أن اللهجة التي ظهرت هي لهجتهم. وخوفهم انطلق أن يعتقد الآخرون أن العلويين كطائفة موالون للنظام ومؤيدون لهذا القمع الوحشي وأنهم جزء منه. لكن معظم الناس تعلم أن هؤلاء لا يمثلون سوى أنفسهم، ويعلمون أن كل فئة من الناس يوجد بها من هو قابل للتجييش والتجنيد للقتل المأجور، ولكنا يعلم طبيعة هؤلاء الشبيحة الذين عانى منهم أهلهم قبل أن يعاني منهم الآخرين. ولا أشك لحظة واحدة أن النظام يتعمد أن يأتي بهؤلاء من الطائفية العلوية حصرياً ليحاول بث الفتنة بين الناس.

ظهرت بعض الأصوات الطائفية هنا وهناك ولا مجال للاختباء وراء الإصبع، لكن المتابع لحركة المظاهرات يستطيع التأكد أنها سلمية، وتنادي بالوحدة الوطنية، ولا تفرق بين مسلم ومسيحي ولا بين طائفة وأخرى. ولم نعهد طيلة السينين التي عشناها معاً مثل هذا التفريق والخوف من الآخر هنا في سوريا. تاريخنا أكبر من ذلك بكثير، وهذا الوعي نجده واضحاً عند الشباب خاصة. وربما (أقول ربما) هتاف ذلك الشاب بالجهاد لا يكون له أي معنى ديني جهادي بالمعنى الضيق للكلمة، بل ربما تكون دعوى للكفاح في سبيل الحرية ولغته لم تساعده إلا بإطلاق هذه الكلمة. وربما يكون متطرفاً أيضاً لكنه لا يمثل سوى نفسه وشريحة قليلة جداً في هذا الحراك الكبير.

كل هذه المخاوف مفهومة ولا يلام عليها أحد حتى هذه اللحظة. لكن المهم في هذه النقطة أن نذكر الجميع أن الاتكاء على وعي الناس لا يكفي، بل يجب تحصين هذا الوعي بوحدة وطنية حقيقية تركب قطار الحرية. الاستمرار بالانطواء والخوف والنأي بالنفس عن حركة التحرر سوف يسمح للمتطرفين فعلاً بإقناع المتظاهرين بأن الجميع ترككم وحدكم في مواجهة آلة القتل. فإن كان كل واحد منكم مقتنع حقاً بمطالب الحرية والكرامة فلا يجب أن يتأخر عن الانضمام قبل فوات الأوان. وسوف يكون الجميع حينها ودون استثناء مسؤولاً عن أي انحراف في مسار الثورة باتجاه لا يسر أحداً.

كلمة لا بد منها في الختام: ليس النظام هو من حافظ على الوحدة الوطنية، إن لم نقل أنه عمل جاهداً على بث الفرقة بين المواطنين فهو على الأقل ليس له الفضل بما نحن عليه. هذا هو تاريخنا،لم يكن النظام موجوداً عندما حرر رموز الثورة السورية من كل الطوائف وطننا من الاستعمار الفرنسي. ولم يكن النظام موجوداً عندما كان فارس خوري رئيساً للوزراء ولم يفكر السوريون أنه مسيحي بل فكروا أنه وطني يخدم وطنه. نحن السوريين هكذا فلا منة للنظام علينا بذلك. فليكف عن الإيحاء لنا “إما أنا أو الفتنة” أو الإيحاء لنا “إما أنا أو القمع” وليكف أيضاً بعض أقطاب المعارضة الذين يقولون “إما سقوط النظام أو الفوضى”.

نشرت هذا المقال أساساً على موقع المندسة

14 أفريل 2011

الثورة السورية: الاختيار بين الحرية و الأمن

وصلت حالة الاحتقان في الشارع إلى الذروة خلال أحداث بانياس في الأيام القليلة الماضية، كما ذكرت في المقال السابق. بدأت كل مجموعة من طرفي الفتنة ترى في الأخرى عدواً لها. النظام يريد كغيره من الأنظمة الديكتاتورية أن يخير الشعب بين الحرية والأمن. وهنا أستعرض بعض الوثائق التي يمكن أن نسترشد بها للاستدلال على هذا التوجه:

– وثيقة توضح خطة وزارة الداخلية المصرية للتصدي للمظاهرات في بداية الثورة المصرية. ونلاحظ بوضوح أن الغاية هي ترويع الشعب المصري والتشويش على أهداف المتظاهرين وسلوكهم. فلماذا لا نصدق أن النظام السوري يقوم بذلك أيضاً؟ اضغط هنا لرؤية الوثيقة.

– وثيقة توضح التخطيط للقيام بتجير إحدى الكنائس لبث الفوضى في مصر وضمان عودة الكنيسة إلى حظيرة النظام، والتي نتج عنها لاحقاً تفجير كنيسة القديسين في الاسكندرية ليلة رأس السنة. اضغط هنا لرؤية الوثيقة

– أما هذه الوثيقة وهي الأخطر بالنسبة لسوريا فهو توضح خطة المخابرات العامة للتعامل مع الحركة المطالبة بالحرية في سوريا. لا يمكننا إثبات صحة الوثيقة بدليل قاطع، لأني لا  أرى فيها ختم المخابرات العامة السورية، وذلك بالرغم من أن شخصاً أثق به تماماً أكد لي صحة هذه الوثيقة. وبكل الأحوال، يمكن تفحص الخطة ومقارنتها بما يحدث في سوريا، وما حدث في مصر وتم إثباته بالوثائق ومقارنته بما نعرفه عن النظام والأجهزة الأمنية السورية. اضغط هنا لرؤية الجزء الأول من الوثيقة، وهنا للجزء الثاني، وهنا للجزء الثالث.

– وثيقة تثبت بشكل قاطع تبعية وسائل الإعلام السورية بشكل كامل للنظام، وتثبت كيف يقوم الإعلام بتلقي الأوامر للتعتيم على أي حدث لا يروق لهذا النظام. وبالتالي يمكن استخدامها للاستدلال على صحة الوثيقة السابقة. اضغط هنا لرؤية الوثيقة.

أعتقد أن هناك طريقين محتملين للخروج من دائرة الفتنة التي يحاول النظام إحاطة الشعب السوري بها. الأولى هي حرق ورقة العصابات المسلحة، والثانية خروج مظاهرات في مدينة دمشق.

حرق ورقة العصابات المسلحة

لن يستمر الناس إلى ما لا نهاية بتصديق قصة العصابات المسلحة التي تجوب سوريا طولاً وعرضاً، وسوف يطرحون على أنفسهم تلك الأسئلة البديهية عن الأطراف التي تقف خلف هذه العصابات، وعن عدم قدرة أجهزة الأمن القبض على بعض من أفرادها وخاصة أنها تتنقل بحرية ضمن الأراضي السورية وتظهر بقدرة قادر في المناطق التي تحدث فيها المظاهرات، وعن السر في ظهورها فقط في المظاهرات المطالبة بالحرية، وغيرها كثير من الأسئلة الأخرى التي سوف تكشف حقيقة هذه العصابات تلقائياً إن لم يتلقى المواطن السوري جواباً شافياً قاطعاً عليها خلال الأيام القادمة.

وأذكر هنا أني رأيت خلال مظاهرة جامع الرفاعي في كفر سوسة بدمشق ما يقارب 20 باصاً مليئاً بأناس بالزي المدني يحملون العصي بأيدهم، ونزل هؤلاء عندما بدأت المظاهرة وأخفوا العصي وبدؤوا بالهتاف باسم الرئيس بشار. وعندما لم ينفع هذا مع المتظاهرين أخرجو العصي وبدؤوا بضرب المتظاهرين واعتقالهم. ورأيت نفس الأمر في دوما وبجانب الجامع الأموي بدمشق وقرب قصر العدل وفي شارع خالد بن الوليد أيضاً. فإن كان كل هذا الانتشار الأمني الكثيف من أجل بضع عشرات من المتظاهرين بدمشق فكيف لا يستطيع نظام لديه أكثر من 13 جهاز أمني و أكثر من 350 ألف عنصر أمن عدا عن قواته المسلحة أن يمنع العصابات المسلحة من العبث بأمن الوطن؟

إذا استطاع طلاب الحرية أن يصمدوا بضعة أيام بوجه هذه الآلة الإعلامية-الأمنية التي تريد بث الخوف بقلوب الناس، واستطاعوا تعرية النظام وكشف كذبه فيما يخص العصابات المسلحة، فسوف تسقط الورقة ولن يعد بإمكان النظام استخدامها لتخويف الناس. في هذه الحالة سوف يعلم الناس من هو عدوهم الحقيقي ويزول الخوف من المجهول ومن الآخر المطالب بالحرية، وتالياً تسقط مقولة الفتنة من تلقاء نفسها.

مظاهرات في دمشق

دمشق لها عدة خصوصيات في سياق التظاهر، الأولى أنها العاصمة ومركز ثقل النظام، وإن عمت المظاهرات في دمشق فسوف يهتز عرشه ويشجع باقي المدن الأخرى على الخروج بأعداد كبيرة جداً. ويمكن ملاحظة خروج مظاهرة في كلية الآداب بحلب في اليوم الثاني مباشرة لخروج مظاهرة في كلية العلوم بدمشق. وهذا له دلالة لا يجب أن نغفلها. والخصوصية الثانية، أن دمشق ذات تنوع كبير جداً تعكس التنوع السوري بشكل مركز، والمظاهرات في دمشق تعني (نظرياً على الأقل) تظاهر شرائح المجتمع السوري كافة. والخصوصية الثالثة تكمن بصعوبة عزل دمشق وصعوبة القيام بأعمال إجرامية كما حدث في درعا وبانياس، وسوف تتكشف وحشية النظام بشكل غير قابل للبس. بالنتيجة فإن خروج المظاهرات بدمشق يعني دعماً كبيراً للحراك المطالب بالحرية، ويسقط بدوره أيضاً مقولة الفتنة.

أعتقد أن النظام بدأ فعلياً يخسر هاتين الورقتين بسبب خروج مظاهرتين في جامعة دمشق، وإن كانتا بأعداد صغيرة، إلا أن لها دلالات هامة جداً تؤشر إلى بداية فقدان سيطرة النظام على خيوط اللعبة. وأيضاً بسبب عدم قدرته على الاستمرار بالإبقاء على  هوية المسلحين مجهولة واضطراره إلى إخراج تلك المسرحية الهزيلة عن اثنين ادعيا أنهما من العصابات المسلحة.

إن صدقت هذه التوقعات، وانكشف كذب النظام فيما يخص العصابات والفتنة في الأيام القليلة القادمة (ربما سوف تظهر أولى المؤشرات غداً)، فلن يتوانى أبداً عن كشف وجهه الحقيقي والتكشير عن أنيابه ودفع كل أجهزته الأمنية وقوات الجيش وخاصة الحرس الجمهوري إلى مواجهة المواطنين. وأعتقد أني سوف أفرد موضوعاً مستقلاً في هذا الخصوص قريباً.

لا حياة بدون حرية وأمن معاً، ومجرم هو من يجعل الناس تختار بين الاثنين، فهو يسلبهم الاثنين معاً بطبيعة الحال.

هذا النص نشرته أساساً على موقع المندسة

12 أفريل 2011

الثورة السورية: النظام السوري يلعب بورقتي العصابات المسلحة والفتنة

خرج التلفزيون السوري علينا مع بداية المظاهرات في درعا بقصة العصابات المسلحة التي صور أسلحتها وأموالها المخزنة في الجامع العمري في درعا البلد. وصدق من صدق وكذب من كذب، والحق يقال أن كثيرين صدقوا أو أرادوا التصديق على أقل تقدير. ففي التصديق راحة للضمير.

ولم يمض أسبوع على بدء المظاهرات حتى خطبت فينا بثينة شعبان عن الوحدة الوطنية وحذرت الجميع من الفتنة وتحدثت عن عرب وأكراد وسنة وعلويين. كان هذا أول ذكر رسمي للفتنة، تلاها خطاب الرئيس الذي ذكر الفتنة ومشتقاتها ومرادفاتها عشرات المرات! ولم يعد على لسان الإعلاميين والمسؤولين غير هذه الكلمة مع صديقتها العصابات المسلحة. لكن لا أحد قال لنا بين من ومن سوف تكون الفتنة؟ هل هي بين الطوائف؟ أم بين العرب والكرد؟ أم بين الشعب والجيش؟!

فشلت الفتنة الطائفية في اللاذقية عندما حاول بعض الأفراد إشعال الفتيل قبل أسبوعين بين المواطنين السوريين، إلا أن أحداً لم يستجب لهم. وفجأة تحول هؤلاء الأفراد إلى عصابة مسلحة تستبيح دم المدنيين ورجال الأمن على حد سواء، ولا أحد يعلم من هم وكيف خرجوا وماذا يريدون. ومنذ ذلك الحين نسمع بتلك العصابات تصول وتجول في كل أرجاء سوريا، من درعا إلى اللاذقية مروراً بحمص وبانياس ودوما والمعضمية وغيرها، ولم يستطع أحد إيقافها حتى الآن.

والجدير ذكره أيضاً أن شق الصف بين السوريين عربهم وكردهم باء بالفشل أيضاً، فقد حاول النظام السوري تحييد الأكراد عن معركة الحرية من خلال مرسوم “منح” الجنسية للمسجلين بقيود الأجانب في الحسكة، إلا أنهم ردوا عليه في اليوم نفسه بأن التجنيس لا يعني الحرية وأن الشعب السوري واحد وقضيته واحدة وهي قضية المواطنة والعدالة والحرية.
لكن هل هذا الفشل الجزئي هنا وهناك يعني أن مشروع الفتنة فشل بمجمله؟

استطاع النظام أن يحرز نقطة على المتظاهرين باستخدام البوطي الذي أظهر نفسه على أنه يفاوض النظام السوري من أجل تلبية مطالب الشعب والتي اختصرها بمطالب دينية صرفة مضيفاً عليها بعض المطالب المدنية. مما جعل البعض يشكك بحقيقة أهداف المتظاهرين ويتخوف من اللباس الطائفي المتشدد الذي قام البوطي بإلباسه للثورة.
ويدعم هذا التخوف عند بعض السوريين استمرار خروج معظم المظاهرات من المساجد وبدعم من الأئمة أنفسهم. وهذا التخوف في محله من الناحية المجردة. لكن يجب علينا قبل إطلاق الأحكام أن نعلم أن النظام عمل ومنذ انقلاب آذار 63 على القضاء على المجتمع المدني والاجتماع السياسي، وغض النظر في المقابل عن الانتماءات الفرعية ما قبل الوطنية المتمثلة بالعشيرة والطائفة وغيرها على أن تكون تحت جناحه وضمن الحدود التي يرسمها هو. كما أن هذا لا يعيب هؤلاء المتظاهرين بقدر ما يعيب المنادين بالحرية اللذين لم يخرجوا بعد إلى التظاهر حتى الآن، ويستمرون بالتمترس خلف الظاهر الديني للثورة. ولا ننكر في هذا السياق رصدنا لتكرار بعض الهتافات الطائفية مرتين، ولا ننكر وجود الطائفيين الموتورين ممن يقولون أنهم معارضة ويحاولون ركوب الأمواج لتحقيق مصالحهم الخاصة أو لبث أحقادهم السوداء ووالكشف عن رغبتهم بالانتقام على حساب الوطن وحرية المواطن.

نعود إلى العصابات المسلحة التي نسمع عنها كثيراً وقلما نعرف عنها الحقائق. يفرض النظام تعتيماً إعلامياً مطلقاً على الأحداث الميدانية، فلا يسمح للمراسلين الصحفيين الأجانب أو العرب أو حتى المحليين من العمل نهائياً، بل ويعتقل الأمن بعضهم أيضاً كما حدث مؤخراً مع مراسل رويترز في سوريا. ويعتقل أو يرهب كل من يصور الأحداث بهاتفه المحمول. وقبل يومين كادوا أن يعتقلوا يافعاً في مدينة حمص لأنهم شكوا أنه يقوم بالتصوير. والسؤال هنا: كيف لم تستطيع أجهزة الأمن السورية المعروفة بقوتها وجبروتها أن تمسك ببعض أفرد هذه العصابات حتى الآن؟ ولماذا تفرض كل هذا التعتيم الإعلامي إن كانت لا تخشى كشف حقيقة هذه العصابات؟

لكن وبنفس الوقت، نكون واهمين إن اعتقدنا أن هدف التعتيم الإعلامي هو إخفاء الجرائم فقط أو لمجرد إلصاقها بالمتظاهرين، بل هناك علاقة عضوية بينه وبين الفتنة غير المحددة المعالم، وأعتقد أن النظام يحرص على هذه العلاقة أكثر من حرصة على التعتيم نفسه. لأن ورقة العصابات اقتربت من الاحتراق، ولن يكون لها أي مفعول مباشر بعد بضعة أيام. فالناس سوف تطرح على نفسها نفس السؤالين السابقين وسوف تستطيع استنتاج الجواب بشكل تلقائي. وسوف يقع النظام بشر أعماله حينها.
فما هي هذه العلاقة؟ وكيف يتم الربط بين الفتنة وهذه العصابات المسلحة؟ هل هذه العلاقة تنحصر فقط في محاولة هذه العصابات الايقاع بين المواطنين من طوائف مختلفة؟ أعتقد أنه من السذاجة القول بذلك، لأن وأد الفتنة الطائفية سهل جداً بمجرد أن تطل برأسها كما حدث في اللاذقية.

النظام الآن في سباق مع الزمن، فهو يريد استمثار العلاقة بين العصابات والفتنة، اليوم قبل أن يخسر الورقة الأولى وتصبح الثانية عديمة النفع، فهو يلعب على محورين الآن:
الأول ضخ النظام على مدار الأسابيع الثلاثة من عمر الثورة كماً هائلاً من مفردات الفتنة وما يدور في فلكها، حتى اعتقد الناس أنها مقولة مسلم بها ولم يعد التفكير وارداً بإمكانية حدوثها. كما أنه لم يحدد ما هيتها وشكلها. لأن الجهل بالعدو هو القاتل وليس العدو نفسه. فلو قلنا أن الخوف من فتنة طائفية لأخذ الناس حيطتهم منها وطوقوها، ولو قلنا فتنة عرقية لدفنت في مهدها (ولا أنكر هنا أن النظام حاول في المجالين وفشل). في هذه الحالة يجهل الناس شكل عدوهم وكيف سيأتيهم والأهم من ذلك مصدره (مصدر الفتنة) وبالتالي يجهلون كيفية مواجهته. هذا يجعل المواطنين بحالة توتر وخوف دائم من مجهول ما، ويشل قدرتهم على المحاكمة المنطقية ورؤية الأشياء بوضوح: أي يسهل السيطرة عليهم!

أما الثاني فهو فهو إرهاب المواطنين عن طريق العصابات المسلحة. وليس خوف المواطنين من القتل هو المرجو من قبل النظام. بل الخوف من المجهول. ولا يخشى النظام كثيراً أن ينكشف إجرامه أمام العالم (هو يفضل إخفاءه بالتأكيد)، فهو قادر على عقد الصفقات مع كل الدول، ومجازر حماة وصفقاتها ليست ببعيدة عنا. والتعتيم الإعلامي المفروض حتى من قبل وسائل الإعلام نفسها يفصح عن عدم رغبة أي أحد بسقوط النظام السوري (بعكس ما يروج النظام). فقد أرسلنا لهم أكثر من مقطع فيديو يثبت بالدليل القاطع أن قوات الأمن هي من يقتل المتظاهرين، ولم ينشروها. بكل الأحوال، الغاية من التعتيم وفرض حالة من الضبابية واللا يقين على هوية العصابات المسلحة تتماثل تماماً مع الغاية من تمييع شكل الفتنة: التوتر الدائم والخوف من مجمهول ما والسيطرة على العقول.

فتنة مسلم بوجودها من قبل الناس، وتمييع شكل هذه الفتنة، وعصابات مجهولة الهوية والهدف تقتل وتهدد كما يحلو لها. كل ذلك ينتج مواطناً خائفاً ومشوش الذهن غير قادر على التمييز بين عدوه وصديقه، فيكون العدو هو الحلقة الأضعف: المتظاهرين الذين يشكلون بالنسبة للناس السبب المباشر (وليس الحقيقي) لانعدام الأمن. وهذه القضية التي بدأت تنتشر على الفيس بوك ربما تعبر عن هذه الحالة، نريد يوم الجمعة القادم له عنوان واحد: جمعة الأمان. وجاءتني الدعوة من عدة أصدقاء لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارهم من مناصري النظام!

إنها الفتنة الحقيقية التي أرادها النظام، ليست طائفية ولا عرقية ولا فتنة بين الجيش والشعب. أقوى الأوراق هي أن تكون فتنة بين مجموعتين من المواطنين، كل مجموعة يتمثل فيها الطيف السوري كله، ولكنهم مختلفون على الأولوية إلى درجة العداء: الحرية أم الأمن! لست أبالغ بذلك، فقد وصلت حالة الاحتقان في الشارع إلى الذروة خلال أحداث بانياس في الليلتين السابقتين. بدأت كل مجموعة ترى في الأخرى عدواً لها، ودم العدو مستباح.

هل هناك مخرج من هذا النفق؟ هل نستطيع كسر حلقة الرعب هذه؟ الجواب يكمن بأضعف هاتين الورقتين: العصابات المسلحة. وسوف أناقشه في مقال لاحق مع بعض من السيناريوهات الممكنة للمرحلة القادمة.
الأنظمة الديكتاتورية البوليسية هشة بطبيعتها، وعدم شرعيتها الشعبية هي نقطة ضعفها. قوة هذه الأنظمة واستمراريتها تكمن في ضعفنا وخوفنا وسذاجتنا.

خرج التلفزيون السوري علينا مع بداية المظاهرات في درعا بقصة العصابات المسلحة التي صور أسلحتها وأموالها المخزنة في الجامع العمري في درعا البلد. وصدق من صدق وكذب من كذب، والحق يقال أن كثيرين صدقوا أو أرادوا التصديق على أقل تقدير. ففي التصديق راحة للضمير.
ولم يمض أسبوع على بدء المظاهرات حتى خطبت فينا بثينة شعبان عن الوحدة الوطنية وحذرت الجميع من الفتنة وتحدثت عن عرب وأكراد وسنة وعلويين. كان هذا أول ذكر رسمي للفتنة، تلاها خطاب الرئيس الذي ذكر الفتنة ومشتقاتها ومرادفاتها عشرات المرات! ولم يعد على لسان الإعلاميين والمسؤولين غير هذه الكلمة مع صديقتها العصابات المسلحة. لكن لا أحد قال لنا بين من ومن سوف تكون الفتنة؟ هل هي بين الطوائف؟ أم بين العرب والكرد؟ أم بين الشعب والجيش؟!
فشلت الفتنة الطائفية في اللاذقية عندما حاول بعض الأفراد إشعال الفتيل قبل أسبوعين بين المواطنين السوريين، إلا أن أحداً لم يستجب لهم. وفجأة تحول هؤلاء الأفراد إلى عصابة مسلحة تستبيح دم المدنيين ورجال الأمن على حد سواء، ولا أحد يعلم من هم وكيف خرجوا وماذا يريدون. ومنذ ذلك الحين نسمع بتلك العصابات تصول وتجول في كل أرجاء سوريا، من درعا إلى اللاذقية مروراً بحمص وبانياس ودوما والمعضمية وغيرها، ولم يستطع أحد إيقافها حتى الآن.
والجدير ذكره أيضاً أن شق الصف بين السوريين عربهم وكردهم باء بالفشل أيضاً، فقد حاول النظام السوري تحييد الأكراد عن معركة الحرية من خلال مرسوم “منح” الجنسية للمسجلين بقيود الأجانب في الحسكة، إلا أنهم ردوا عليه في اليوم نفسه بأن التجنيس لا يعني الحرية وأن الشعب السوري واحد وقضيته واحدة وهي قضية المواطنة والعدالة والحرية.
لكن هل هذا الفشل الجزئي هنا وهناك يعني أن مشروع الفتنة فشل بمجمله؟
استطاع النظام أن يحرز نقطة على المتظاهرين باستخدام البوطي الذي أظهر نفسه على أنه يفاوض النظام السوري من أجل تلبية مطالب الشعب والتي اختصرها بمطالب دينية صرفة مضيفاً عليها بعض المطالب المدنية. مما جعل البعض يشكك بحقيقة أهداف المتظاهرين ويتخوف من اللباس الطائفي المتشدد الذي قام البوطي بإلباسه للثورة.
ويدعم هذا التخوف عند بعض السوريين استمرار خروج معظم المظاهرات من المساجد وبدعم من الأئمة أنفسهم. وهذا التخوف في محله من الناحية المجردة. لكن يجب علينا قبل إطلاق الأحكام أن نعلم أن النظام عمل ومنذ انقلاب آذار 63 على القضاء على المجتمع المدني والاجتماع السياسي، وغض النظر في المقابل عن الانتماءات الفرعية ما قبل الوطنية المتمثلة بالعشيرة والطائفة وغيرها على أن تكون تحت جناحه وضمن الحدود التي يرسمها هو. كما أن هذا لا يعيب هؤلاء المتظاهرين بقدر ما يعيب المنادين بالحرية اللذين لم يخرجوا بعد إلى التظاهر حتى الآن، ويستمرون بالتمترس خلف الظاهر الديني للثورة. ولا ننكر في هذا السياق رصدنا لتكرار بعض الهتافات الطائفية مرتين، ولا ننكر وجود الطائفيين الموتورين ممن يقولون أنهم معارضة ويحاولون ركوب الأمواج لتحقيق مصالحهم الخاصة أو لبث أحقادهم السوداء ووالكشف عن رغبتهم بالانتقام على حساب الوطن وحرية المواطن.
نعود إلى العصابات المسلحة التي نسمع عنها كثيراً وقلما نعرف عنها الحقائق. يفرض النظام تعتيماً إعلامياً مطلقاً على الأحداث الميدانية، فلا يسمح للمراسلين الصحفيين الأجانب أو العرب أو حتى المحليين من العمل نهائياً، بل ويعتقل الأمن بعضهم أيضاً كما حدث مؤخراً مع مراسل رويترز في سوريا. ويعتقل أو يرهب كل من يصور الأحداث بهاتفه المحمول. وقبل يومين كادوا أن يعتقلوا يافعاً في مدينة حمص لأنهم شكوا أنه يقوم بالتصوير. والسؤال هنا: كيف لم تستطيع أجهزة الأمن السورية المعروفة بقوتها وجبروتها أن تمسك ببعض أفرد هذه العصابات حتى الآن؟ ولماذا تفرض كل هذا التعتيم الإعلامي إن كانت لا تخشى كشف حقيقة هذه العصابات؟
لكن وبنفس الوقت، نكون واهمين إن اعتقدنا أن هدف التعتيم الإعلامي هو إخفاء الجرائم فقط أو لمجرد إلصاقها بالمتظاهرين، بل هناك علاقة عضوية بينه وبين الفتنة غير المحددة المعالم، وأعتقد أن النظام يحرص على هذه العلاقة أكثر من حرصة على التعتيم نفسه. لأن ورقة العصابات اقتربت من الاحتراق، ولن يكون لها أي مفعول مباشر بعد بضعة أيام. فالناس سوف تطرح على نفسها نفس السؤالين السابقين وسوف تستطيع استنتاج الجواب بشكل تلقائي. وسوف يقع النظام بشر أعماله حينها.
فما هي هذه العلاقة؟ وكيف يتم الربط بين الفتنة وهذه العصابات المسلحة؟ هل هذه العلاقة تنحصر فقط في محاولة هذه العصابات الايقاع بين المواطنين من طوائف مختلفة؟ أعتقد أنه من السذاجة القول بذلك، لأن وأد الفتنة الطائفية سهل جداً بمجرد أن تطل برأسها كما حدث في اللاذقية.
النظام الآن في سباق مع الزمن، فهو يريد استمثار العلاقة بين العصابات والفتنة، اليوم قبل أن يخسر الورقة الأولى وتصبح الثانية عديمة النفع، فهو يلعب على محورين الآن:
الأول ضخ النظام على مدار الأسابيع الثلاثة من عمر الثورة كماً هائلاً من مفردات الفتنة وما يدور في فلكها، حتى اعتقد الناس أنها مقولة مسلم بها ولم يعد التفكير وارداً بإمكانية حدوثها. كما أنه لم يحدد ما هيتها وشكلها. لأن الجهل بالعدو هو القاتل وليس العدو نفسه. فلو قلنا أن الخوف من فتنة طائفية لأخذ الناس حيطتهم منها وطوقوها، ولو قلنا فتنة عرقية لدفنت في مهدها (ولا أنكر هنا أن النظام حاول في المجالين وفشل). في هذه الحالة يجهل الناس شكل عدوهم وكيف سيأتيهم والأهم من ذلك مصدره (مصدر الفتنة) وبالتالي يجهلون كيفية مواجهته. هذا يجعل المواطنين بحالة توتر وخوف دائم من مجهول ما، ويشل قدرتهم على المحاكمة المنطقية ورؤية الأشياء بوضوح: أي يسهل السيطرة عليهم!
أما الثاني فهو فهو إرهاب المواطنين عن طريق العصابات المسلحة. وليس خوف المواطنين من القتل هو المرجو من قبل النظام. بل الخوف من المجهول. ولا يخشى النظام كثيراً أن ينكشف إجرامه أمام العالم (هو يفضل إخفاءه بالتأكيد)، فهو قادر على عقد الصفقات مع كل الدول، ومجازر حماة وصفقاتها ليست ببعيدة عنا. والتعتيم الإعلامي المفروض حتى من قبل وسائل الإعلام نفسها يفصح عن عدم رغبة أي أحد بسقوط النظام السوري (بعكس ما يروج النظام). فقد أرسلنا لهم أكثر من مقطع فيديو يثبت بالدليل القاطع أن قوات الأمن هي من يقتل المتظاهرين، ولم ينشروها. بكل الأحوال، الغاية من التعتيم وفرض حالة من الضبابية واللا يقين على هوية العصابات المسلحة تتماثل تماماً مع الغاية من تمييع شكل الفتنة: التوتر الدائم والخوف من مجمهول ما والسيطرة على العقول.
فتنة مسلم بوجودها من قبل الناس، وتمييع شكل هذه الفتنة، وعصابات مجهولة الهوية والهدف تقتل وتهدد كما يحلو لها. كل ذلك ينتج مواطناً خائفاً ومشوش الذهن غير قادر على التمييز بين عدوه وصديقه، فيكون العدو هو الحلقة الأضعف: المتظاهرين الذين يشكلون بالنسبة للناس السبب المباشر (وليس الحقيقي) لانعدام الأمن. وهذه القضية التي بدأت تنتشر على الفيس بوك ربما تعبر عن هذه الحالة، نريد يوم الجمعة القادم له عنوان واحد: جمعة الأمان. وجاءتني الدعوة من عدة أصدقاء لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارهم من مناصري النظام!
إنها الفتنة الحقيقية التي أرادها النظام، ليست طائفية ولا عرقية ولا فتنة بين الجيش والشعب. أقوى الأوراق هي أن تكون فتنة بين مجموعتين من المواطنين، كل مجموعة يتمثل فيها الطيف السوري كله، ولكنهم مختلفون على الأولوية إلى درجة العداء: الحرية أم الأمن! لست أبالغ بذلك، فقد وصلت حالة الاحتقان في الشارع إلى الذروة خلال أحداث بانياس في الليلتين السابقتين. بدأت كل مجموعة ترى في الأخرى عدواً لها، ودم العدو مستباح.
هل هناك مخرج من هذا النفق؟ هل نستطيع كسر حلقة الرعب هذه؟ الجواب يكمن بأضعف هاتين الورقتين: العصابات المسلحة. وسوف أناقشه في مقال لاحق مع بعض من السيناريوهات الممكنة للمرحلة القادمة.
الأنظمة الديكتاتورية البوليسية هشة بطبيعتها، وعدم شرعيتها الشعبية هي نقطة ضعفها. قوة هذه الأنظمة واستمراريتها تكمن في ضعفنا

هذا النص نشرته أساساً على موقع المندسة.

الثورة السورية: النظام السوري يلعب بورقتي العصابات المسلحة والفتنة

تحياتي لكل من يتابع مقالاتي على هذه المدونة المتواضعة. تم نشر هذا المقال على موقع المندسة، لقراءته من هنا.
وسوف أستمر بالنشر على موقع المندسة هنا حتى إشعار آخر تحت هذا الاسم

2 أفريل 2011

الثورة السورية: مشاهدات من أساليب النظام السوري في إرهاب المواطنين

يوماً بعد يوم تزداد الأدلة على تعمد النظام السوري إرهاب المواطنين ليثنيهم عن الخروج والمطالبة بحقوقهم. ويبدو أنه يتبع أساليب تختلف من محافظة إلى أخرى بحسب طبيعتها. ولن تستطيع آلته الأمنية-الإعلامية الضخمة التستر على كل ذلك. فنحن اليوم في عصر التكنولوجيا وعصر صحافة المواطن، وإن شابها بعض الزلات وبعض الأخطاء العفوية أو المتعمدة التي نرفضها بشكل قطعي لأنها تسيء لحركة المطالبة بالحقوق. لكن الحقيقة تتوضح أكثر مع كل ساعة تمر من عمر نهضة الشعب السوري ومطالبته بحريته وكرامته ومواطنيته وبالعدالة الاجتماعية.

وصلني أمس من أحد مواطني خربة الغزالة في حوران سرداً لذلك اليوم الدامي الذي سقط فيه العديد من شهداء الحرية برصاص النظام السوري عن سابق إصرار وترصد. وهذه الشهادة مدعمة بالفيديو أدناه الذي صوره بنفسه وعانى الأمرين ليستطيع إيصاله إلى دمشق إذ أن نقاط التفتيش تركز على عدم وجود مقاطع فيديو في موبايلات المسافرين.

خرج العشرات من المتظاهرين في خربة الغزالة يهتفون للحرية وللشهداء. وعندما اقتربوا من الساحة كان هناك مجموعة من عناصر الجيش تقف سداً أمامهم، حينها بدأ المتظاهرون بالهتاف “الجيش والشعب إيد وحدة” وسمح الجيش لهم بالدخول إلى الساحة. ولحظة دخولهم بدأ الجيش بإطلاق النار من البنادق الرشاشة من خلف المتظاهرين وسقط عدد من المتظاهرين في الصف الخلفي. فركض المتظاهرون إلى الأمام هرباً من رصاص الجيش ليبدأ الإطلاق من قوات الأمن من الأمام أيضاً ويسقط الصف الأمامي أيضاً.

تفرق المتظاهرون هرباً من إطلاق النار الكثيف، وبحسب ما روى هذا الشاهد فقد رأى قناصة على أسطح المنازل تطلق النار أيضاً وحاول تصويرهم (من الدقيقة 1:50 إلى الدقيقة 2:30) إلا أن الفيديو لم يكن بدقة كافية لإظهارهم. وربما هذا يفسر إصابة أحد المواطنين بطلق في رأسه وإصابة طفل لا يتجاوز الخامسة عشرة من عمره في فمه (آخر الفيديو).

وعند توقف إطلاق النار قدم الموطنون لحمل جرحاهم وشهدائهم من الشوارع، وفور انكشافهم بدأ إطلاق النار عليهم مجدداً (الدقيقة 3:45).

إن دل ذلك على شيء فإنه يدل على أن جميع من صرحوا بأن هناك مخربين أو أن رجال الأمن أخطؤوا في تعاطيهم مع المتظاهرين هم كاذبون. فمن الواضح أن هناك أوامر مباشرة بتعمد قتل أكبر عدد ممكن من المواطنين لإرهاب الشعب وللإيحاء بأنهم أمام حماه جديدة إن لم ينهوا حالة التظاهر هذه.

وتطابقت روايتان وصلتا إلي لما حدث في اللاذقية يوم الأربعاء الماضي مع ما شاهدناه في هذا الفيديو ورواه الشاهد. فعندما قام المعتصمون في الصليبة بالتظاهر والمسير في شوارع اللاذقية كان يتبعهم رجال الأمن لمنع انضام الناس للمتظاهرين. وعند وصولهم إلى الساحة بقرب محطة القطار كان الجيش بانتظارهم. وياللمفارقة فقد هتف المتظاهرون هذه المرة أيضاً “الجيش والشعب إيد وحدة”، فأشعرهم الجيش أنهم بأمان وسمح لهم بالإقتراب أكثر. وعندما أصبحوا وجهاً لوجه قام ضابط في الجيش بإعطاء الأمر لجنوده بإطلاق النار مباشرة على المتظاهرين وليس في الهواء. وسقط الكثير من الشهداء والجرحى في ذلك اليوم.

أرجوكم أيها المتظاهرين، إن رأيتم الجيش أمامكم فلا تهتفوا له “الجيش والشعب إيد وحدة” فيبدو أنها كلمة السر لقتل أكبر عدد ممكن منكم.

ولا بد من طرح بعض الأسئلة التي تدلل على الأساليب الإرهابية والقعمية والوحشية التي يتبعها النظام السوري تجاه شعبه. لا نطرحها لنلقى جواباً عليها، لأننا لا نشك بممارساته هذه، ولكنها فقط ليجيب عليها كل مدافع عن النظام وكل من داخله الشك بحقيقة الأحداث: لماذا لم يظهر المندسون والمخربون في المسيرات المليونية المؤيدة، ويظهرون فقط في المظاهرات الاحتجاجية؟ لماذا يتم تأمين المسيرات المؤيدة بكافة الوسائل الأمنية والإعلامية ولا نرى سوى القمع والتعتيم الإعلامي تجاه المظاهرات الاحتجاجية؟ لماذا يمنع النظام وسائل الإعلام من تصوير المظاهرات الاحتجاجية؟ لماذا عندما تخرج مظاهرة نرى دائماً حشداً من المؤيدين مسلحين بالعصي كما شاهدت اليوم بأم عيني في كفر سوسة بدمشق؟ من أين خرج “الخربون” في مدينة اللاذقية؟ وإن صح أنهم فعلاً مخربون فكيف لم يستطع الأمن والجيش السيطرة عليهم بسرعة وهو المشهود له بعد الأنفاس على المواطنين؟

31 مارس 2011

الثورة السورية: بشار الأسد يكشف مقتل نظامه، وبداية الجولة الثانية

يمكن اعتبار هذا المقال بمثابة الجزء الثالث لما بدأت به قبل بضعة أيام حول قراءة الوضع الراهن للثورة السورية. إلا أنه وفي نفس الوقت يسلط الضوء على واحدة من أهم صفات النظام السوري.

وقبل البدء أريد أن اسأل الذين مازالوا غير موقنين أن هذه المظاهرات شعبية وسلمية ولم يتدخل فيها أي عنصر مؤامرة سوى مؤامرة النظام: أين المندسين والمخربين والعصابات في المسيرات المؤيدة؟ لماذا لم يظهروا؟

كنت قد قلت في الجزء الأول أن النظام الديكتاتوري غير قادر بطبيعته على القيام بإصلاحات حقيقية وجذرية حتى لو أراد ذلك. ورغم هذا الاعتقاد تأمل السوريون أن يقدم الرئيس بشار الأسد بعضاً من الإصلاحات التي يمكن البناء عليها نحو مستقبل سوريا. تأملنا ذلك لنوفر على الجميع صراعاً عنيفاً بين النظام والشعب. إلا أن المفاجأة كانت أن الرئيس في خطابه لم يقدم أي شيء سوى بعض الجمل الإنشائية وكان لهذا الخطاب ثلاثة عناوين رئيسية: الاستهتار الشديد بالشعب وبدماء الشهداء، ولا أحد يجبرنا على القيام بإصلاحات، وتهديد صريح للمتظاهرين تحت مسمى المؤامرة الخارجية!

من إحدى صفات النظام السوري التي ربما يتفرد بها، هي عنجهيته الصبيانية، فهو دائماً يرفض تقديم أي شيء تحت الضغوط. بل يريد أن يظهر أنه عندما يقدم شيئاً فهو يقدمه كرماص منه ولأنه يريد وليس لأن أحداً يريد حتى لو كان هذا الأحد هو الشعب. وهذه الصفة بالضبط سوف تكون مقتل النظام التي سلمها اليوم بشار الأسد للشعب. لو أن النظام فكر قليلاً لوجد أنه لم يكن هناك زخم كبير للمظاهرات، بل اختار الكثيرون الوقوف على الحياد واختاروا”الانحياز للوطن” بحسب تعبيرهم. كان هؤلاء المحايدون ورقة هامة جداً بيد النظام ليلعب بها، إذ كان بإمكانه أن يقدم بعض الإصلاحات (التي يمكن له أن يلتف عليها لاحقاً ويطيل بقاءه خمس أو عشر سنوات) وسوف ينحاز إليه هؤلاء الحياديون بكل تأكيد بحجة أنه قدم بعضاً من الإصلاحات. لكنه بعنجهيته هذه واستهتاره أكاد أجزم أنه خسر معظم هؤلاء الحياديين الذين سوف ينضمون إلى الداعين إلى إصلاح النظام أو إسقاطه.

أيقن السوريون اليوم أنه لا أمل في هذا النظام البوليسي الوحشي الذي جثم على صدورهم لأكثر من أربعة عقود. وتردد الكثيرون قبل ذلك بالانضام إلى معركة الحرية لأنهم لا يرغبون برؤية البلد مدمراً، وفي كثير من الأحيان قاموا بتحميل مسؤولية الدمار المتوقع للمتظاهرين وليس للنظام. وبذلك هم تناسوا أن المتظاهرين يريدون الخروج فقط ليعبروا عن آرائهم، والنظام هو من سوف يدمر البلد لقمع المتظاهرين. وينطبق هذا الأمر تماماً على مسألة الطائفية التي يخيفونا منها، فالذي سوف يحاول جاهداً إثارة النعرات الطائفية هو النظام وليس المتظاهرين ليظل مسيطراً على رقاب الشعب. لكني لست مقتنعاً بجدوى هذه المحاولات التي رأينا فشلها قبل بضعة أيام في اللاذقية ليس لشيء سوى أن السوريين أكثر تحضراً مما يتوقه النظام، وأكثر التفافاً على قضيتهم الرئيسية اليوم: الحرية والمواطنة الكاملة. ومن الضرورة القول أن نزال النظام السوري لا مفر منه، إن كان اليوم أو بعد عشر سنوات، فهو لن يسلم إلا بهذه الطريقة، وسوف يفعل كل ما يستطيع وسوف يقتل بقدر ما يستطيع لثني الشعب عن المتابعة، فهل نضحي نحن بأرواحنا اليوم أم نترك المهمة لأبنائنا الذين ما زالوا أطفالاً؟

اختار المتظاهرون أن تكون الجمعة القادمة “جمعة الشهيد”  احتراماً وإجلالاً لدماء الشهداء الذين سقطوا حتى الآن، فالشعب ليس كالنظام لا يقيم وزناً لدماء أبنائه. وبحسب المؤشرات فإن معظم المدن السورية سوف تشهد احتجاجات غير مسبوقة وسوف تكون حاشدة نسبياً. وأعلن العديدون من الذين كانوا على الحياد نيتهم الخروج مع هذه المظاهرات، وكذلك الأمر بالنسبة للكثيرين ممن أجبروا على الخروج بمسيرات التأييد وأجبروا على الرقص على دماء شهداء الحرية.

بدأت التحضيرات للجولة الثانية التي سوف تنتطلق عملياً يوم الجمعة القادم. وبكل تأكيد سوف يقوم النظام السوري بقمع المتظاهرين بوحشية باستخدام البلطجية والأمن وحتى الجيش السوري. ويجب علينا الأخذ بعين الاعتبار أنه لا يوجد في سوريا مؤسسات يمكن الاعتماد عليها للوقوف بجانب مطالب الشعب. فقد قام بربط كافة الاتحادات به حزبياً وأمنياً وتعمد أن ينخرها الفساد لتدين بالولاء له حتى آخر لحظة من حياته. وهذا ينطبق بشكل أكبر على الجيش السوري، لذلك لا يجب التعويل على وقوف الجيش مع الشعب كما حدث في تونس أو على الحياد كما فعل في مصر. فقادة الجيش جزء لا يتجزأ من النظام وسقوطه يعني سقوطهم.

كان خطاب الرئيس ظهر أمس واضحاً جداً: سوف نقاتل!

الصفحة التالية «

المدونة على ووردبريس.كوم.